بـ ” صنع في غزة” .. كيف عبر جمهور الترجي قارات العالم ؟

إسكندر نوار

من مدارج  ملعب  حمادي العقربي برادس بالعاصمة تونس، انطلقت شعارات خاصة عشية المقابلة التي جمعت كل من الترجي الرياضي التونسي بمناسبة مباراة الدور النهائي لمسابقة دوري ابطال إفريقيا  ضد الأهلي المصري أُثارت جدلا شاسعا على مواقع التواصل الاجتماعي لتنتقل إلى الساحة الاعلامية الدولية. 

وتأتي الدخلة التي نظمها جمهور نادي الترجي الرياضي التونسي بالتزامن مع تواصل العدوان على قطاع غزة منذ السابع من اكتوبر من العام المنقضي وبعد مرور أكثر من نصف عام على الحرب، والتي تسوق بذلك رسائل مهمة في وقت ربما طبع فيه الشارع التونسي وكل الشوارع العربية مع ما يحدث في فلسطين خاصة مع تراجع عدد التحركات الاحتجاجية الداعمة لغزة والتطبيع مع الابادة الجماعية الواقعة في غزة. 

في الأثناء كانت الرسائل التي ساقها الجمهور متعددة ومتنوعة منها أن الجماهير الرياضية يمكن أن تلعب دورا مهما في تشكيل الرأي العام بمختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية، خاصة وأن جمهور أي ناد رياضي يجمع مختلف الشرائح الاجتماعية ومن كل الفئات، من طلبة إلى اساتذة وشباب معطل وفنانين وعمال وأطفال وغيرهم.

من جانب أخر، يمكن الاشارة أيضا إلى ما يمكن ان تشكله فضاءات الرياضية اليوم في تونس وفي سائر دول العالم من ناحية أن الاجتماع على حب ناد أو فريق رياضية ما يمكن ان يجمع الشباب المحب على طاولة للتفكير في قضاياه المحلية والوطنية والاقليمية وكل ما يمكن أن يسكن في مخيال الفرد في مجتمعاتنا.

بناء على ما سبق، يبدو أن تلك الخيبات المتتالية التي عاشتها جماهير الكرة هي التي كانت دافعا في خلق هكذا شعارات وثورات في مدارج الملاعب، أي أنها جاءت في توقيت تخلفت فيه الدول والحكومات عن القيام بواجب الدعم لغزة، سيما المتعلق بتقديم المساعدات أو حتى المجهودات الديبلوماسية ووسائل الضغط بأي طريقة كانت لوقف نزيف الابادة في القطاع.

أيضا، تشير هذه الثورة من قلب المدارج إلى أن جماهير الكرة غالبا ما تختار طريق التفكير والانفصال عن القواعد العامة المعمول بها لعل ذلك يرد إلى ما يحدث على طاولات تفكير هذه المجموعات المحبة ومراجعة كل المسلمات التي يعيشون عليها، وبهذا فان مرتجعتها واعادة التفكير فيها قد تكشف لهم جوانب من الخطأ أو بالأحرى جوانبا تتعارض مع مفهوم الصالح العام الذي يمكن أن يعود على المجموعة بالمنفعة فيكون بذلك السبيل الوحيد للتغيير هو التعبير والثورة برفع شعارات من ميدان الملاعب. 

الملاعب فضاء عام للتفكير والثورة والتحرر..!

بالعودة إلى مفهوم الفضاء العام والمرجعيات الفلسفية، يُعتبر الفضاء العام مفهومًا أساسيًا يشكل منصة وأرضية للتفكير في الثورة والتحرر، نعم انه يعكس جوانب مختلفة من الحياة الاجتماعية والسياسية التي يعيش على وقعها الفرد في مجموعته، ويُمكن من خلاله التعبير عن الرغبات والمطالب الجماعية بعد أن يقع التداول فيه ومناقشتها، وتتراوح تعريفات الفضاء العام من التجمعات العامة إلى وسائل الإعلام والمنتديات العامة على الإنترنت وحتى فضاءات التفكير المفتوحة بما في ذلك الملاعب.

نعم، فلسفيا، يُعتبر الفضاء العام مكانًا حيويًا لتبادل الأفكار وتشكيل الرأي العام، وهو مفتوح للجميع دون تمييز، وفي هذا الاطار، يرى المفكر الالماني يورغن هابرماس أن الفضاء العام هو المكان الذي يجتمع فيه الأفراد لتبادل الحوار والمناقشة الحرة، ويسهم في تشكيل الإرادة السياسية واتخاذ القرارات الجماعية بين مختلف الأفراد الحاضرين.

وتاريخياً، كان للفضاء العام دور مهم في دعم الثورات وحركات التحرر الوطني، فعلى سبيل المثال وبالعودة إلى محطات مهمة في التاريخ، وخلال الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، استخدمت الساحات العامة والمقاهي كمنابر للتبادل الفكري والنقاش وتنظيم الحركات الثورية، وفي القرن العشرين أيضا ، شهدت العديد من الثورات والتحررات، مثل حركة النسوية وحركات التحرر الوطني، توسعًا لدور الفضاء العام في التوعية والتنظيم ومن ضمن الأمثلة في تونس جماعة تحت السور وغيرهم من المجموعات المثقفة وحتى العادية.

من جانب أخر يؤكد  عالم الاجتماع الالماني جورج سيميل على أهمية الفضاء العام في تحقيق العدالة الاجتماعية، حيث يشجع على مشاركة الجميع في صناعة القرار وتحديد مصير المجتمع، وذلك من خلال التفاعل الذي يحدث بين الناس ويفرز مخرجات يتحرك من أجلها المجتمعون ومن هنا يُعتبر الفضاء العام منبرًا لتحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي الفعّال.

وفي السياق الحديث، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الالكترونية جزءًا أساسيًا من الفضاء العام، حيث يتم تبادل الأفكار والمعلومات بشكل واسع وسريع، وقد شهدت العديد من الحركات الاجتماعية، مثل الربيع العربي وحركة “أوكوبا” في نيجيريا، استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتنظيم الاحتجاجات ونشر رسائل التحرر.

جماهير كرة القدم.. لطالما كانت صوت الثورة ورمز التحرر

لطالما عاين العالم تاريخا طويلا مليئا بالأحداث الهامة التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بدور جماهير كرة القدم في رفع شعارات الثورات ودعم حركات التحرر الوطني، حيث عُرفت جماهير الملاعب على مر العصور بقدرتها على توحيد الشعوب وتعبيرها عن الانتماء الوطني والتضامن مع القضايا العادلة، ربما هم ليسوا مجرد مشجعين يحضرون المباريات، بل هم جزء لا يتجزأ من الحركة الاجتماعية والسياسية التي تشهدها بلدانهم.

بناء على طيات التاريخ وفي سنة 1969، شهدت المكسيك حدثًا تاريخيًا لا ينسى عندما قامت جماهير كرة القدم بتظاهرات واسعة النطاق خلال مباراة بين الأرجنتين والبيرو في كأس العالم، للتنديد بالانتهاكات الحقوقية التي ارتكبتها الحكومة المكسيكية، من المهم الاشارة أيضا إلى ما وقع خلال عام 1989، وذلك عندما شهدت بولندا حركة التحرر الشعبية “سوليدارنوش”، لقيت الحركة أنذاك  دعمًا واسعًا من قبل جماهير كرة القدم، حيث قامت الملاعب برفع لافتات تنادي بالحرية والديمقراطية.

في عالمنا العربي ودولنا شكلت جماهير كرة القدم جزءًا لا يتجزأ من ثورات الربيع العربي، حيث شهدت مباريات في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن تظاهرات واسعة النطاق رافعةً شعارات التحرر والديمقراطية.

وخلال سنة 2011 وفي تونس، خرجت جماهير النادي الإفريقي بشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهو شعار شهير تم اقتباسه من ثورة مصر، كما انضمت جماهير الرياضي الليبي إلى الثورة ضد نظام القذافي باعتبارهم جزءًا من الحراك الشعبي الذي نادى بضرورة انهاء نظام الحكم بالبلاد.

من جهة أخرى لطالما كانت الجماهير في تونس وقبل حلول الثورة خلال عام 2011 ترفع شعارات وقف قمع البوليس في تونس، ولطالما كانت هي الثائر الداعية للدولة إلى تغيير سياساتها في مجالات عدة.

بالاضافة إلى ذلك لا يقتصر دور جماهير كرة القدم على رفع الشعارات واللافتات فحسب، بل يمتد إلى التأثير على القرارات السياسية، فقد  أدت احتجاجات واسعة في تركيا  في عام 2013 إلى إلغاء مشروع إعادة تطوير ميدان تقسيم، وذلك بفضل تضامن جماهير فريق “بشكتاش” الكبير.

تظهر هذه الأمثلة البارزة أهمية دور جماهير كرة القدم في العالم، فهي ليست مجرد تجمعات لمشاهدة المباريات، بل هي قوة اجتماعية تتحدث بصوت واحد وتعبر عن الغضب والتضامن مع القضايا العادلة، إنها التذكير القوي الدائم بأن الرياضة يمكن أن تكون وسيلة للتغيير الاجتماعي والسياسي، وأن الجماهير هي جزء حيوي من هذا التغيير وانها في حالات ومناسبات عدة منطلق التفكير في التغيير.

صنع في غزة.. عنوان جال في وسائل اعلام دولية

نشرت صحيفة  “الإسبكتداور”  مقالًا صحفيًا بعد حضور رئيس كولومبيا إلى مدرجات جماهير الترجي في مباراة الدور النهائي لدوري أبطال إفريقيا، وأشارت الصحيفة الكولومبية إلى أن جماهيرالترجي قامت بالتعبير عن دعمها لفلسطين من خلال فسيفساء عملاقة، تضمنت صورة جوستافو بيترو، رئيس دولة كولومبيا، المؤيد للقضية الفلسطينية والمقاومة في غزة منذ بداية العدوان على غزة.

وانتشر “تيفو” الترجي في جميع أنحاء العالم منذ ليلة السبت التي انتظمت فيها المباراة ، حيث تداول مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي صورًا ومقاطع فيديو للرسومات التي زينت ملعب رادس.

وقام رئيس كولومبيا بالتفاعل مع وجود صورته في “تيفو” الترجي عبر حسابه الرسمي في موقع X، حيث أعاد نشر التغريدة، مما يشير إلى مشاركته في الخبر المنشور في موقع الصحيفة الكولومبية.

من جانب أخر علق موقع “Centre Goals” على تفاصيل الشعارات التي رفعت جماهير الترجي بالملعب بكتابة “تيفو لا يصدق قام به مشجعو الترجي الرياضي التونسي لدعم فلسطين، خلال مباراة الذهاب من نهائي دوري أبطال أفريقيا”.

وكتب موقع “instant Foot” عن الفعالية الرياضية المهمة  “أنصار الترجي التونسي ينشرون تيفو رائعًا دعمًا لفلسطين.. هذا التيفو تحية لمحامي محكمة العدل الدولية من جنوب أفريقيا، وألتراس سلتيك، والرئيس الكولومبي وأعلام الدول الداعمة للقضية الفلسطينية”.

بالاضافة إلى ذلك قال  نشر حساب: “soccer 212” على موقع التواصل الاجتماعي “إكس” تعليقا اخر عن الثورة من الملعب بالقول  “تيفو ساحر من جماهير الترجي .. الإنسانية الضمنية، والإيمان الذي لا يتزعزع، والشجاعة المكشوفة”.

ونشر حساب “supperssed news”: “عرضت جماهير الترجي التونسي “تيفو” دعما لفلسطين خلال مباراة الذهاب من نهائي دوري أبطال أفريقيا على ملعب حمادي العقربي في رادس، حيث واجه فريقهم الأهلي المصري.. إنه حرفيًا جميل وقوي ومعبر”.

ونشر موقع “الجزيرة نت” مقالًا بعنوان: “”تيفو” ضخم لإظهار معاناة الفلسطينيين.. جماهير الترجي التونسي تخطف الأنظار بدعمها لغزة”.

بناء على ما سبق ومن مختلف المشارب والمرجعيات، يعني من الفكرية إلى الأدبية والتاريخية والفلسفية وحتى الثورية، ربما لم تكن الرياضة والجماهير كما تسوق لها السلطة في البلدان رمزا للشغب والفوضى، انها امتداد واضح لتنوع ثقافي وروح ثورية، انها بالكاد فضاء عام يجتمع فيه المقاومون.

نعم فضاءات الملاعب والرياضة وتحشدات الجماهير ماهي الا انعكاس واضح للمقاومة بطريقة مستمرة، مقاومة وان ماتت في الشوارع وبعض الفضاءات العامة والمنتجعات، فانها تظل حية في ملاعب الكرة ولطالما كانت على مر التاريخ كذلك، باهتمامها اللافت للنظر حول القضية في الوقت بدل الضائع، ربما الوقت الذي يئس فيه الغزيون من تسجيل الشارع لأهداف في سبيلها، وهنا وفي الدقيقة التسعين، تسجل أهداف الدعم من قلب ملعب حمادي العقربي لصالح غزة والقاومة.

مشاركة
علق على الخبر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Exit mobile version